أشرف جمعة (أبوظبي)

جدد خبراء علم نفس الطفل لفت الانتباه إلى المخاوف المتزايدة بين الآباء والأمهات حول زيادة استخدام الأجهزة الرقمية وآثارها على التعليم والمهارات الاجتماعية والصحة العقلية، وأوصوا بالحظر الشامل على الهواتف الذكية، لأنه يعد حلاًَ سريعاً للحيلولة من مخاطر في قضايا سوء معاملة الأطفال.
وقال خبير ألماني في علم نفس الطفل، ومستشار للحكومة الألمانية، إن الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 14 عاماً ينبغي عدم السماح لهم باستخدام الهواتف الذكية، مشيراً إلى خطر تعريضهم للصور غير الأخلاقية الصريحة.
وبحسب ما أفادت صحيفة «واشنطن بوست»، فإن جوليا فون ويلر، التي تقود مجموعة «البراءة في خطر» الألمانية، وهي منظمة غير ربحية تعلّم كيفية استخدام التكنولوجيا، ومنع الاعتداء للأطفال عبر الإنترنت.. صاغت الاقتراح على غرار عدة قيود أخرى للطفولة في المواد القانونية، وقالت: مثلما نحمي أطفالنا من الكحول أو المخدرات، فإنه يجب أن نحميهم من مخاطر استخدام الهواتف الذكية في سن مبكرة..
مقترح فون ويلر يتبع حديثاً في فرنسا، عن منع الطلاب الصغار من أخذ هواتفهم الذكية وأجهزتهم اللوحية إلى المدرسة، حيث يطلب منهم إيقاف تشغيل الأجهزة في أثناء وجودهم في الفصل.
ووفقاً لدراسة حديثة نشرتها جمعية علم النفس الأميركية «تعمل الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي على تغيير عادات القراءة لدى الشباب، ما قد يؤثر على تفكيرهم النقدي، إذ يقضي المراهقون معظم أوقاتهم على أجهزتهم، ووفقا لتحليل بيانات، قال 60% من المشاركين إنهم يقرأون كتاباً أو مجلة أو صحيفة يومياً في أيام الدراسة عام 1970، مقارنة بـ 16 بالمئة من طلاب المدارس الثانوية عام 2016.
ويلهو الأطفال بالأجهزة الذكية في البيوت وسيارات الآباء، وهم يتنقلون من مكان إلى آخر، وفي الحدائق العامة، وأيام العطلات وغيرها، ورغم أن الأعمار التي تلهو بهذه الأجهزة، قد تبدأ قبل الخامسة، حيث تضطر الأمهات في كثير من الأحيان للاستجابة للأبناء في طلب هذه الأجهزة، تخلصاً من الضجيج المتواصل ومن عبء تصرفاتهم داخل البيت أو خارجه.
واللافت أنه مع مرور الأيام يزداد ارتباط هذه الفئة بالهواتف النقالة والأجهزة اللوحية الأخرى مثل الآيباد، وهو ما يؤثر في تفاعلهم مع الواقع ويقلل قدراتهم على تحفيز حواسهم للابتكار واللعب المباشر مع مكونات البيئة المحيطة، خصوصاً أن مثل هذه الأجهزة تجعلهم في محيط منعزل، وتستأثر بالوقت وتستنفد الجهد وتبتلع الطاقات وتؤثر في النمو بحسب خبراء التربية وعلم النفس والاجتماع، فضلاً عن ارتياد مواقع التواصل الاجتماعي وتدشين الحسابات والبحث عن سبل الترفيه من خلال ممارسة الألعاب الإلكترونية، من ثم محاولة اقتحام العالم الافتراضي بمباركة الأهل، وهو ما يستلزم أن تكون هناك خطوات جادة لاحتواء الأطفال وإحداث التوازن لكي يتم الحفاظ على صحته النفسية والجسدية وتنمية الخيال من خلال الطبيعة، أولاً لكي يكون نموهم طبيعياً في الحياة، في ظل المخاوف من الانعزال وضعف النمو.

تأثير سلبي
ويقول الدكتور جاسم المرزوقي استشاري علم النفس: الاستخدام المفرط للأجهزة الذكية له تأثير سلبي على الأطفال قبل سن الخامسة، وبعده أيضاً، خصوصاً أن الطفل تدفعه ميوله الفطرية السليمة إلى التفاعل مع الطبيعة والبحث عما يغني نفسه ويحرك حواسه للمس التراب والعبث به والجري في الفضاء الفسيح والتفاعل مع من هم في سنه وابتكار الألعاب التي تنمي الذكاء وتشجع على التحرر من الإطار الضيق داخل البيوت.
ولفت إلى أن هذه الخطوات، الركيزة الأساسية في نمو الأطفال جسدياً ونفسياً وعقلياً، خاصة أن الطبيعة ملهمة العقل ونقطة التقاء الذات ومحور جذب الإنسان لمكوناتها، ورغم أن التحول العمراني، قد يحول بين الطفل وتلك الحياة الطبيعية بين جدران البيوت وبين اللعب بالأدوات البسيطة القابلة للتدوير والمتعارف عليها منذ أن وجد الإنسان، إلا أنه يمكن توفير بيئة للطفل محفزة على التفاعل العقلي والوجداني من خلال الحدائق العامة التي توفر منصات للألعاب والنوادي التي تمتلك مساحات فسيحة تهيئ الطفل لذلك، فضلاً عن الجهات التراثية التي في الدولة التي توجّه الأطفال نحو الابتكار من خلال العودة إلى الماضي واللعب بمفردات الطبيعة الأصيلة.

بث الوعي
وأوضح المرزوقي أن العالم اتجه في الفترة الماضية إلى الانفتاح على العوالم الرقمية، وحقق طفرة كبيرة في صناعة الأجهزة الذكية، التي أصبحت محوراً رئيسياً في حياة الكبار والصغار، مشيراً إلى أن الأطفال، الفئة الأكثر تأثراً بالتكنولوجيا لانجذابهم وقلة خبرتهم، ويرى أن الأسرة فتحت مجالاً واسعاً أمام الصغار في امتلاك الأجهزة، وأصبح من الصعب السيطرة عليهم وإحكام القبضة بيسر وتفاهم، مما أسهم في انطواء بعضهم وتعرض أبصارهم للضعف وإصابتهم بالوهن، وهو ما يجعل الأطفال في مثل هذه الأعمار غير قادرين على العثور على فطرتهم الأصيلة وحياتهم الطبيعة المتسمة بالحركة والتفاعل المباشر مع الحياة ومع أقرانهم الذين يماثلونهم في المرحلة العمرية.
ولفت إلى أنه من الصعب تجاهل العالم الرقمي وعزل الأطفال عن هذا العالم، لكن من الضروري أن تكون هناك ضوابط وسيطرة حقيقية حتى لا يقع الجيل الجديد تحت تأثير التكنولوجيا بشكل كامل فيقدم الإنسان ذاته وقدراته الطبيعية وخياله البكر وقدرته على الابتكار من خلال واقعه الملموس وليس المتخيل من خلال الصور البصرية والتحرك في فضاء مفتوح يحتاج إلى وعي وتدريب وقدرة على التحكم في النفس، خاصة أن الأجهزة الرقمية أصبحت جزءاً أصيلاً من حركة الإنسان في الكون، مؤكداً أنه من الضروري أن تكون هناك آليات جديدة لبث الوعي في نفوس الأسرة أولاً، حتى نحصل على نتيجة تحدث التوازن المطلوب للأطفال.

قدرات خاصة
شغف إبراهيم سالم - موظف - بالتكنولوجيا كان له انعكاس ضار على أطفاله الثلاثة أحمد ومنى وطلال، إذ إنه بيته به العديد من الأجهزة الذكية، وهو ما جعلهم في مرحلة مبكرة لديهم قدرات خاصة في التعامل معها، ويشير إلى أنه انتبه مؤخراً لخطورة انفتاح أبنائه على العالم الرقمي والتعامل بكثافة مع الأجهزة الذكية عندما اضطر أحد أطفاله إلى ارتداء نظارة بناء على رغبة الطبيب، الذي أكد ضعف النظر وحاجته إلى التحرك بشكل دائم بها فضلاً عن شعور الصغار كلهم بآلام في العظم وفي الرقبة تحديداً.
وذكر أنه على الرغم من معاناته الشخصية مع الآلام العظمية بسبب الإكثار من التعامل مع الأجهزة الذكية، إلا أنه لم يتحملها على الأطفال، وهو ما جعلها يتخذ تدابير أخرى من أجل أن يعيش صغاره الحياة بمنظور أخرى، ويرى أنه ليس من الصعب السيطرة على مثل هذه الأعمار الصغيرة، لكن الأصعب هو التوجيه والبحث عن منافذ أخرى لكي ينمو الخيال من خلال الطبيعة والبيئة المحفزة على الابتكار التي لا تتعطل فيها الحواس ويقف فيها العقل عند حدود الصور البصرية والعالم الافتراضي.

مشكلات صحية
وتعاني لطيفة علي أم لطفلين ارتباط طفليها بالأجهزة الذكية ومن ثم قضاء أوقات كثيرة من أجل اللعب واستخدام حسابات السوشيال ميديا، لافتة إلى أنها استعانت بمتخصصين نفسيين واجتماعيين من أجل إيجاد حلول تساعدهم على التعامل مع طفليها، وإلى أنها لم تكن تتوقع أنه عندما يمتلك ناصر وعمر مثل هذه الأجهزة فإن حياتهما ستتغير بهذا الشكل وتبين أنها في الوقت الحالي وبعد مرورهما ببعض المشكلات الصحية بسبب اللعب الكثير بطريقة إلكترونية أصبحت تفرض عليهما نظاماً معيناً وتنطلق بهما نحو الحدائق والمراكز التعليمية، مشيرة إلى أنها على قناعة بأن اللعب مع عناصر الطبيعة يجعل الشخصية مستقرة ويولد السعادة ويسهم في تنمية قدرات الأبناء.

ساعة واحدة
وعاش عامر إبراهيم -مهندس- لحظات صعبة مع أطفاله الذين يقضون معظم الوقت أمام شاشات الأجهزة الذكية، خصوصاً أنه لاحظ أنهم يستيقظون صباحاً بصعوبة وعندما سأل زوجته عن السبب أخبرته أنهم يسهرون أحياناً في غرف نومهم يلعبون على هذه الأجهزة، وهو ما جعله يستشيط غضباً ويجمعهم ويتحدث إليهم في لهجة آمرة بحيث وضع أمامهم تصوره للتعامل مع الأجهزة الذكية لكي يكون اللعب لمدة محددة في اليوم.
ويذكر أنه واجه صعوبات حتى تحقق ذلك، وأنه أصبح على قناعة بأنه من الضروري أن يكون هناك وعي بمخاطر التكنولوجيا وأن ينتبه الآباء إلى صحة أبنائهم النفسية والجسدية لكي ينموا بشكل طبيعي.

اللعب والترفيه
بين سعيد المناعي مدير إدارة الأنشطة بنادي تراث الإمارات أنه من المهم توجيه الأبناء نحو التعامل مع البيئة الطبيعة في اللعب والترفيه وأن هناك برامج تراثية تسهم في ذلك من خلال الملتقيات التراثية التي تعيد الأطفال إلى الزمن الماضي وألعاب «الزمن الأوّل» وأن مثل هذه البرامج تسهم في توسيع الخيال وتعزز ثقة الأطفال في أنفسهم وتؤكد قدراتهم الفكرية ومهاراتهم الفردية على التفاعل مع البيئة المحيطة بشكل مباشر.

حياة اجتماعية
يقول الدكتور حمزة دودين أستاذ القياس النفسي بجامعة الإمارات: التكنولوجيا شيء مهم في الحياة الاجتماعية والعملية وكل أوجه الحياة لكن من المهم أن يكون هناك وعي حقيقي بمخاطرها، خاصة على الأطفال ومدى تأثيرها على المدى البعيد سواء من ناحية النمو أو من النواحي النفسية والجسدية والذكاء بوجه عام، موضحاً أن الذكاء فطرة يولد الطفل بها، لكن من الضروري تنميته بالطرق المجدية، ومن ثم استثمار الطاقة الجسدية والفكرية للصغار من خلال دمجهم في محيط عائلي وإنساني واجتماعي وترفيهي يوسع مدركاتهم ويلهمهم الابتكار. وأشار إلى أن العديد من الدراسات أكدت خطورة الأجهزة الذكية على نمو الأطفال، خصوصاً إذا تم استخدامها بصورة مكثفة، لذا من الضروري أن تُقنن وأن يتم البحث عن البيئة البديلة والمحفزة للخيال والمشجعة على النمو بالشكل السليم.